جَعفر بن أبي طالب
كان الشيخ ابو معاذ مرهقاً في ليلته هذه، أثقله يوم متعب هدَّ من جسمه وأوغل في إيلامه، ورغم هذا فقد جاء الى مجلسه كعادته.. ولمس الجميع عليه بوادر العاصفة الثقيلة على وجه محدثهم.
وقال الشيخ ابو معاذ، وهو يجاهد نفسه مجاهدة على الكلام:
كانت ليلة قاسية جداً على أبي طالب، وهو يرقب عودة ابن أخيه، وقد مرَّ شطر كبير من الليل ولم يعد. نصف الليل انقضى، ومحمد لم يظهر له أي أثر، ومعه علي، ولكن أبا طالب وزوجته لم يهمهما أمر ولدهما علي بقدر ما يهمهما أمر محمد.. وكيف لا يفكر في أمره، وقريش تتحين له الفرص لتُنزلِ به السوء، فقد توسمت فيه خطراً مقبلاً عليها.
ومرّ الثلث الثاني من الليل، ولم يعد محمد، وأقلق الشيخ الوقور هذا الغياب ولا يريد أن يعلن الخبر، وأخذ يسأل عنه
...........................................
هنا وهناك كالملهوف، لم يتمكن من الهدوء أمر ولده جعفر أن يأخذ سلاحه، ويخرج معه، وبدآ البحث. وطلع عليهما الفجر وهما في بعض جيال مكة، وإذا بمحمد في أعلاه، واقف وعلى يمينه علي يصليان، يركعان ويسجدان.
ودبّت الطمأنينة إلى قلب الرجل الحنون، وهدأت أعصابه واستردّ أنفاسه، وجلس وهو يشد نظراته إلي هذا المنظر، ثم لم يلبث أن أخذ يد ولده جعفر وجعله إلى يسار النبي، وقال له: «صل جناح ابن عمك»، وانساب الفتى اليافع مع ابن عمه وأخيه يركع ويسجد، حتى أكملوا جميعاً صلاتهم، وعادوا إلى شيخ الهاشميين، والسرور يطفح على وجوههم، وهزَّ السرور والاعتزاز الرجل الوقور، فأخذ ينشد:
إن علياً وجعفراً ثقتي*** عند ملم الزمان والنوب
لا تخذلا، وانصرا ابن عمكما*** أخي لأمي من بينهم وأبي
واللّه لا أخذل النبي ولا*** يخذله من بني ذو حسب
ثم التفت محمد إلى جعفر وهو يقول:
«يا جعفر وصلت جناح ابن عمك، إن اللّه يعوضك من ذلك بجناحين تطير بهما في الجنة».
وبقيت هذه الكلمة الكريمة ترنُّ في أعماق فتى أبي طالب وهو لا يحب أن يفارقها في خواطره، عزيزة عليه كفجر ساحر
..........................................
يمتد في قلب السماء فيزيح عنه الظلام ويشتت منه طيوف المساء القاتم.
ويعيش جعفر في ظل هذه الاشراقة الإيمانية، ويغمض عينيه في كل ليلة على خواطر عذبة تحمل من أماني ابن عمه رسول الإنسانية ما تفعم قلبه بالأمل والخير والازدهار..
وتتوثق الصلة بين الفتى المؤمن، وبين ابن عمه الداعي إلى الحق وكلما امتد الزمن ازدادت العلاقة، حتى يصبح جعفر عضواً في الأسرة المؤمنة، وتعرف قريش بذلك وتثور على هذا النبأ، إن عدد المؤمنين بهذه الرسالة الجديدة بدأ يتضخم شيئاً فشيئاً، ولم يقف في وجهها البطش والعنف، تزداد على مر الأيام.
وجعفر وإن كان في مأمن من عقاب، وأذى الطغمة الحاقدة لأنه محفوظ بقوة أبيه، ولكنه لم يسلم من بقية المشاكل التي لحقت بالصفوة الطيبة من صحابة النبي (ص)..
وقررت قريش مقاطعة بني هاشم، كما قاطعت كل أصحاب محمد، وأمعنت في إيذاء من تستطيع إيذاءه، وبكل صورة وكل أسلوب، وتعملق الاضطهاد قاسياً على هذه الطبقة، فقابلوه بصمود عجيب، وكلما تكاترت المجن، وتواترت الخطوب، تقوت العزائم، وتضخم الصبر وتجلى الثبات.. فتحملت الصفوة الطيبة كل أنواع القسوة، فلم يشكو أحدهم إلى النبي ما يعانوه من الظلم كما لم يظهروا السأم أمامه. فكل شيء في ذات اللّه يهون. ............................
وطرق الخبر أسماع قريش. وهالهم النبأ، فقد هاجر الكثير من صحابة محمد حاملين لواء الدين الجديد. وطاش عقلهم فقد ذهلوا من ترويع ما أُصيبوا به.. فلت المستضعفون، والعبيد من بين أيديهم، وبقي الأقوياء الذين لا سبيل لهم على تعذيبهم وسيكون لهم شأن في الخارج، فأخبار الدعوة تنتشر في الخارج بعد ان كانت محصورة بمكة، وسيعطي المهاجرون عنها صورة رائعة المعالم شأن أي مخلص لقضيته.
وانعقد المجلس في دار الندوة يضم زعماء المعارضة، وكلهم أعصاب متفجرة من توسع هذه الدعوة، ويصرخ فيهم ابو جهل: أرأيتم كيف نجا أصحاب محمد، ولو قتلناهم لما امتد شرهم الى الخارج، لما انتشر خطرهم في تلك الأرجاء، وما ندري ما وراء الأكمة لنا.
وغصّ بكلامه، فقد مضَّ به التأثر بحيث انتفخت أوداجه وجحظت عيناه، ثم انبرى له أمية بن خلف، وجبل من الهم يجثم على ملامحه، وهو يعالج الكلام، وماذا نعمل يا أبا الحكم وقد أُخذنا على حين غرة؟.. أخبرني ولا تلح بالتعزير، وارفق بقومك من اللوم، ما العمل الآن؟ لم نقصر في تعذيب المستضعفين ولم نتهاون في شأن من نتمكن عليه بإنزال أقصى العقوبات، حتى مات من مات، ونجا من نجا.
خيم وجوم على الجالسين، وكلهم لاذوا في تفكير عميق..
..........................................
وكان جل تفكيرهم بالطريقة التي يمكن استرداد هؤلاء المهاجرين من النجاشي.. وأخيراً انتهى بهم التفكير الى حل.. وصاح بهم ابو سفيان: ما هو الحل يا قوم؟ قالوا: نطلبهم من النجاشي فإن لم يجبنا قاتلناه ونأخذهم بالجبر والقوة.. وضحك عالياً صخر بن حرب من هذا الرأي، وقال لهم: وكيف تفكرون بمثل هذا، وهل اننا نستطيع ان نقاوم ملك الحبشة؟ دعونا من الحرب، وفكروا في طريقة اخرى.
ومضت برهة من الزمن والقوم سكوت، وهم يبحثون عن وسيلة يجتثون بها الخطر الذي ربض لهم في الحبشة، يهدد مصالحهم وأمجادهم البالية.
وأدار صخر بن حرب عينيه المشبعتين بالحقد والشرر في وجوه القوم، فلم ير منهم توصلاً الى حل، وتحدث وهو يدحرج الكلمات الملفعة بالألم والحزن، وكأنه يقتطعها من قلبه، قال: الرأي أن نرسل الى النجاشي وفداً يحمل له الهدايا والتحف ويقنعه على ان هؤلاء المهاجرين بغيتنا، ولنا معهم ثأر، فنطلبهم منه.. ثم سكت قليلاً، وعاود الحديث: وطبعاً هذا الأمر يتوقف - الى حد كبير - على قابلية الوفد، ولباقته، وحسن تصرفه..
وكأن هذا الاقتراح أصاب قبولاً من الجالسين، فصاحوا كلهم: هو الرأي، لا عدمناك يا أبا سفيان، فأنت من يستشار ومن هو أولى منك بالعطف على آلهتنا.
................................
«ما أدري بأيهما أنا أشد سروراً: بفتح خيبر، أم بقدم جعفر»؟.
كانت ساعة رائعة عند النبي، وهو يستقبل الصفوة المؤمنة من صحابته الكرام الذين فارقوه منذ زمان حفاظاً على دينهم وأنفسهم.
ثم مع آل أبي طالب فقبل قليل فتح اللّه خيبراً على يد علي بن أبي طالب بعد ما ارتد عن فتحها أبطال وأبطال، ثم لقاء جعفر بن أبي طالب من هجرته منتصراً على الباطل، وهو يحمل مشعل الإسلام، وفي هذا كله ما يبعث على الاعتزاز.
ولم يكن جعفر بعد عودته من الحبشة، قد اعتزل دنياه البطولية، فقد بدأ دوراً جديداً بعد عودته.. دور القائد الذي يكلف بمهام عسكرية لها أثرها البعيد على امتداد الإسلام، وتوسع آفاقه الرحبة.
فلم تطُل السنة الثامنة من الهجرة - ولم يمر على عودته إلا عام واحد - حتى انتدبه الرسول القائد لمحاربة هرقل ملك الروم في بلاد الشام.. واستعد المسلمون وحان يوم الوداع، وتأهب الجيش، وأعلن النبي عن قادة هذا الجيش: جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة، وعبد اللّه بن رواحة، يتناوبون على امارة الجيش..
.....................................
وفي مؤتة من أرض الشام، دارت الحرب حامية تهز الرجال عنيفة تثير الشهامة، وراية محمد ترف بيد الأبطال الثلاثة، لا يهابون الموت، ولا يخافون القتال. وجعفر من القادة الثلاث بطلاً عرفته البطولة كيف تنحاز اليه خاضعة، وشجاعاً مغواراً تمرَّن على تمثيلها خير تمثيل..
وكلما استمر زمن الحرب، حمي وطيسها، وجعفر يحمل راية الإسلام، ويزحف بجيشه، ويغوص في أعماقه، فيجندل هذا، ويهزم ذاك، حتى ضاقت الفرسان منه وصعب عيها أن تشق طريقها بين جثث القتلى، واضطر هو نفسه أن ينزل عن فرسه ليجول بين القوم - فلم تملك الخيل طريقاً تسلكه في ساحة الميدان - غير هياب، ولا متزعزع.. بطل ولا كالأبطال ومحارب ولا كالمحاربين، ورث البطولة من أب وجد، وتمرَّس على الحروب وهو بعد لم يبلغ سن المحاربين، وفوق هذا وذاك انه محارب من أجل عقيدة، ومجاهد في سبيل دعوة عاش أبعادها ووعى حقيقتها.
وقطعت يده اليمنى في ساحة القتال، ولم يشغله أمرها مهما كان الألم الذي هجم عليه، بل همه أن لا تنكس الراية التي يجول بها، وعيون المسلمين مشدودة اليها. وأخذها بشماله، وخاض غمار الحرب، وطاف في خضمها، ولم يأبه بما أصيب، هكذا شأن الأبطال القادة، إنما جلُّ همه أن لا تسقط الراية فاحتضنها.